مهنة الهاوية
مهنتنا مهنةُ الهاوية.
إذا كنّا نريدُ أن نمارسَ مهنةَ الهاويةِ فعلينا أن نبقى دائماً على الشّفير. وإذا اخترنا أن نصرِّحَ ونفضحَ ونقولَ ما لا يقال، وأن ندخلَ عوالمَ الممنوعاتِ والمحظوراتِ والمحرّمات، وأن نفضحَ كلَّ ما هو مستور ومتّسخ، إذا أردنا أن نفتّشَ في المنحدراتِ والمرتفعات، في القعرِ وآخرِ القعر وآخرِ أماكنِ العتمةِ المخبّأة، فنحن نلعبُ بالنار، وهذه أيضاً مهنتنا. وإذا قمنا بهذا كلِّه، وكانت لنا موهبة، فهذا يعني أننا فنّانون، ومبدعون إذا أبدعنا . في كلّ ما يقال مواربة، وما لا يقال، وفي كل مطمور نكشف عن ستره ونعلنه. نفضحُ السرَّ وننحازُ إلى العلَن.ضمنَ هذهِ الرؤيةِ يسكنُ هوسُ المبدعينَ الخلاقين وتوقُهم إلى المعرفة، وهنا تكمنُ قوَّتهم، في الانتقال بخفَّةٍ بين الزوايا المظلمة والزوايا المضيئة. في نَقضِ الثابت والهامد. وفي الهدم. الهدمِ المخلِّص. ألا يقول هايدغر إنّ "الهدمَ هو لحظةُ بناءٍ جديد"؟إذا تخلّى المبدعون عن كلّ ما يَدينُ ويكشف ويصدم ويفضحَ ويثير، إذا تخلّوا عن إدانةِ الظلم وتعريةِ القهر، فإنهم يتخلّون عن سلاحهم الأمضى: اللعب بالنار. كيف لا ومهنةُ الهاويةِ سِرُّ مهنتهم!العمل الإبداعي الكبير لا يُقاس بالموازين نفسها التي يقاس بها أيّ عمل آخر وأيّ مهنة أخرى. العملُ الإبداعي الكبير قد يَظهرُ أحياناً، ولفرطِ صدقه وعرائه، كأنّه عملٌ غير أخلاقيّ، شائن وخشن، يدفع إلى ردود فعل متفاوتة ومتناقضة. لكن إذا أعطيناه بعض الوقت للتفكير والتمحيص، نكتشف أنه ملتزمٌ بالأعماقِ الإنسانيةِ ومشكلاتها الدفينة، دون أن ننسى أنَّ حريةَ التعبيرِ عند الفنانِ الخلاّق هي التي تعرف ما الذي تقوله وكيف؟إنّ ردودَ فعلِ الجمهورِ أيضاً، وأقصدُ الجمهورَ الذي يجمعه مكانٌ واحد، تتمثَّلُ في بقائهِ في المسرح، وإلاّ لكانَ غادرَهُ لو لم يتمكّن الفنانُ من الغوصِ عميقاً في المشاعر والعقول.إلى مدّعي الثقافة،إلى الدخلاء "الشرلطانيين"،إلى الأكاديميين العَفِنين التابعين "الزحفاطونيين"،إلى سماسرة الثقافة وطلبة الجاه،إلى كلِّ الطفيليين الذين يدورون حولَ ضوءِ هذه المهنة ويدّعون معرفةَ الفنِّ وفهمِ أسراره، إلى المسؤولين في الجامعات والمدارس الذين يعتمد عليهم مصيرُ الطلابِ وثقافتهم، الداعين إلى الفنون المسطَّحة التي لا تخدش المشاعر ولا تثير العواطف ولا تحرّض المخيّلة وتدفع إلى طرح الأسئلة، والتي يقبلها أبناءُِ الطبقة الميسورة، إلى الدخلاء المتّهمين بالثقافة،وإلى السياسيين جهابذةِ الجهلِ الأكبر وهم يعرفون أنفسهم واحداً واحداً، إليهم أقول: أنتم تتكلمون عن الأخلاقِ العامة بينما تخدشون آذاننا منذ عشرات السنوات بكلامكم الخشبيّ المسطَّح وخطاباتكم الطائفية النابية. تعملون على الحَطِّ من قَدرِ الإنسان وقيمته، وتتطاولون على الأخلاقِ العامة بممارساتكم القبيحة في الحكم والسياسة والثقافة.إلى جميعِ القيِّمين على الثقافة في كل الأماكن أقول: المسرح ليس ترفاً ولا فناً بورجوازياً، وهو ليس عملاً عادياً ورخيصاً، ولا يمكن حصره في دائرة المقبول والمرفوض، المحلَّل والمحرَّم. المسرح إبنُ الرفض، وهو أداةُ تغييرٍ وثورةٍ وحلم... هو ليس بالحياة ولكنه حياة توازي الحياة، يحكيها المبدعون، وأنتم أبرياء من هذه التهمة. لذلك دعونا نقرِّرُ ما يريدُ المشاهدُ المستنيرُ أن يسمعَ وأن يرى. دعونا نهيّئ الطالب إلى غد أفضل. نتركُ للجمهورِ الخيارَ، وهو الذي يقرّرُ المجيءَ أو عدمَ المجيءِ إلى المسرح.دعكم من ممارسة المسرح في الجامعات إذا لم يكن المسرحُ مرادفاً للغةِ الحياةِ النابعةِ من التغيير، وإذا لم يكن قادراً على إحداثِ زلزالٍ في السائد دعكم من الأشكال المسرحية الفارغة من مضمونها و التي تفرحكم دون شك و هي لا تجدي نفعا.دعونا نقرِّر نحن ما نقول وما لا نقول.احترموا الجمهورَ ودعوهُ يقرِّر.احترموا الطلاب ودعوهم هم يقررون.
إنّ الحوارَ المستمرَّ بيننا وبين جمهورنا هو الذي يؤكِّدُ وجودَنا. فَيَا أيّها الرّقباء والدخلاء وخفافيش الظلام اتركوا لنا المسرحَ شعلةً مضيئة وحلُّوا عنه ، حلُّوا عن المسرح .حلّوا عن ناجي صوراتي وحلو عنّا جميعاً.
نضال الأشقر
March 2011
No comments:
Post a Comment