Al Safir - April 02, 2011 |
وما زال العراك مستمرّاً. معركة بدأها ناجي صوراتي ونصري الصايغ وانتقلت من مكان لآخر وحطّت على مسرح المدينة. هي الجزء الثاني لعرض «تقاسيم عراكيّة»، تضمنت الروح والفكرة نفسيهما إنّما مع تشديد على استمرار عيشنا داخل هذه الفقاعة الزجاجيّة الكبيرة غير المرئيّة التي تغلّفنا، حيث ضاق بنا عيشنا وسط عقدنا وحروبنا المشرّعة فينا. لعلّها الحياة ما زالت تعطي نصري وناجي فرصاً ضئيلة النفس للاستمرار في عمليّة توثيقهم الحيّة لشهادات الموتى، ولعلّ العنف بات متعة لدى مشاهدتنا له وجهاً لوجه مع رغبتنا نحن ايضا بتجربة الضرب والخبيط، وهذا ما بدأ يخيفنا، لأنّنا لم نغلق عيوننا وتمنينا المشاركة في حلبة الدماء الكبيرة التي لا زالت تدور تحت عجلة نص مؤثر بقسوته وصورة وضعنا فيها مخرج لا يعرف الهدوء. في «ما بعد العراك» هناك حنان أكثر على الخشبة، لكنه جسد العنف كأنه حالة ليست بالعقيمة، ستتناسل دائماً وتبدأ بمداهمتنا فتتفاوت خطوط العنف بين فورة الدم والقتل البشع وبين اكتشاف نقاط قوة هذا العنف الجميل. عرض «ما بعد العراك» قدمها ناجي صوراتي مع فرقة كينيتيك التي أسسها حديثا في مسرح المدينة، نص نصري الصايغ.
محاكمة الشهداء
نصري الصّايغ يبدأ نصّه بالعكس. يعطيك إجابة من دون لفّ ودوران. يبدأ بتقديم النهاية، سعيدة كانت أم حزينة، لكنه يصدمك بقناعته أنّ المواربة لم تعد تجدي نفعا في كلماتنا العربيّة. هو ممتع في أسلوب مطرّز بكتابة لا تحدّ بكلمة مشاكسة، بل تأخذك لسخرية مسلية على أحوالنا بعد اكتشافه في يوميّات ما زالت تعصف فيها ذاكرة ممزقة. نصري حالف ناجي في إخراج رؤية حرب شظاياها لا زالت تحلق في الهواء لتحول طعمه الى طعم بارود خفي ما زال لهيبه أحمر سريا تتسلّل في عدّة أشكال نثرها الديو ناجي ونصري في عرض انطباعي حزين. ليست السوداوية هي التي شكلت العرض وليس التشاؤم وليد هذا العمل، بل بدا تحقيقا ميدانيا وجسّ نبض الأموات الذين بنينا على أنقاضهم أسواقنا ومقاهينا وقصص حبّنا ومخاوفنا. فالأجساد ما زالت بضّة، والجراح لم تنكفئ، والقتلة طليقون مع الخاطفين، والمخطوفون تحت التراب، والحرب مفتوحة لدينا على كل الاحتمالات وتحققت نبوءات نصري، لذلك كنّا أمام جزء ثان طغت فيه الأجساد والألواح الخشبيّة، أو النعوش المفتوحة الحاضنة لكل تحركاتنا. مرّت في العرض بعض اللحظات الرومانسية، لحظات تعاطفت فيها الضحية مع الجلاد، في عقدة حلّلها المخرج والكاتب كلنا نعيشها وقد تكون مأساة وطننا، فنحن قوم نعشق خانقينا، وننصّبهم علينا فيصبحون الآمرين الناهين في وطن هو بعهدتهم لا نعلم لماذا.
في العرض تسأل نفسك لماذا اخترنا هذا المصير، وبدأنا نتلفت لعل احد الجالسين بقربنا من المذكورين، من القتلة او الخاطفين، موجود يستمتع بما يرى، لعل أحداً اخبرهم عن ذكرهم في العرض الأول فأتوا للمعاينة والاستماع لشهادات لم يتسنّ لهم الاستماع إليها لحظة ارتكابهم الجريمة. في بعض اللحظات تحولت كراسي الجمهور الى كراسي تعذيب تحتنا كأنّ الممثلين والمخرج والكاتب يتهموننا بالاشتراك في جرائم قد لا نكون ارتكبناها فعلاً، إنما تغاضينا عنها حتى الآن. كانت الأمور على الخشبة محرّضة ومستفزّة، والأجساد كانت هي الشهادة القاسية الحقيقية التي يعلم ناجي تماما كيف يحبكها في تقنيّات مسرح العنف، مسرح آرتو المبدع المجنون، مسرح قاسٍ يؤمن بالتصادم والصدمة للعيش او عدمه. العرض اختلف عن العرض الأول في بعض التفاصيل، لكن النص تكرر مع إضافات لمقاطع جديدة. السينوغرافيا تشابهت غير أن المكان فرض نفسه، واستفاد المخرج من مساحات جديدة للتحرك، لكن وجود كرسي التعذيب بقي غير مبرر، والبرج الحديدي أيضا لم يضف على الأحداث أو السينوغرافيا أي ابتكار، كما كان هناك بطء في إيقاع الحركة في وسط العرض، حيث شعرنا بانفلات وانعدام التناغم بين المجموعة، قبل ان تتصاعد حمّى القتال حيث اشتعلت الأجساد وعاشت من جديد تروما الحروب الموروثة. في «في ما بعد العراك» ولدت الأجساد من جديد على أرض ممهدة وخصبة أصلاّ، لكل ما اورده نصري وناجي. الأجساد تقيدت بالحركة، فكنا امام أسلوب ناجي صوراتي الشهير الذي وصل بممثليه إلى أقصى حدود الدائرة الزجاجيّة وتخطاها مع نصري الصايغ، ورقصا خارجها ونحن ما زلنا في الداخل نصارع أشباحنا لعلّنا نتبعهم يوماً.
اروى عيتاني - April 2011
No comments:
Post a Comment